مدونة الكاتبة اللبنانية ضحى شمس

تلك «التِك»

تلك «التِك»
28/08/2021 doha chams

لا كهرباء. لم يعد التيار كما تمنيت في المساء ولو لساعات أخلّص جسدي مما اختزنه من حرارة النهار الصيفي الذي بدا وكأنه لن ينتهي. أستلقي في العتمة الدبقة متسقطة هبوب بعض النسمات من الشبابيك والأبواب المفتوحة على مصراعيها، كما يفتح الغريق فمه شاهقاً ما أن يخرج من تحت الماء. لم يبق إلا التمدد دون أدنى حراك. أخدع جسدي بالجمود ليخفض حرارته، كما لو كان سينام. لكن الرطوبة. ماذا أفعل بالرطوبة؟

المياه. أبلل قطعة قماش قطني. أمررها على جسدي ليبترد. غريب كيف تلتقط المياه البرودة، كيف تخلقها من العدم. كيف تمحو الرطوبة بالرطوبة! ألوّح لنفسي بمروحة مزينة بالزهور بقيت لي من سياحة قديمة الى إسبانيا، من ماضي رفاهٍ زاهٍ يكاد يكون غابراً كأيام الأندلس.

كم غرقنا بسرعة! تبين ان مركبنا كان من ورق. ورق رقيق رقة ذاك الذي يستخدم للفّ السجائر. حسناً إنها الثامنة فقط. كيف سأنام الآن؟ أحاول الهروب من أفكار توقظ بدلاً من أن تستدرج النعاس. عبث. فكل أفكاري وحواسي متنبهة رغماً عني، تتسقط تلك «التك» التي تعني أن التيار قد عاد الى أوصال بيتي

في الخارج عتمة دامسة لا يبددها قمرٌ بعيد. الخبر الأخير الذي وصل لهاتفي قبل أن ينتهي شحن بطاريته كان يقول إن العتمة صارت شاملة بسبب نفاذ الوقود. لقد أطفأوا معامل توليد الكهرباء كلها في لبنان. من أوله الى آخره. من شرقه الى غربه ومن شماله إلى جنوبه.

«لبنان الكبير». كبير وأهبل. كبير ومريض وميؤوس من شفائه. أهو مريض ام متوفٍ تحللت جثته منذ مدة؟ رائحة التحلل البشعة تزكم أنفي. رائحة جسدي العطنة أيضاً رغم الاستحمام المتواصل، يضيق بها صدري. دمعة تفرّ من عيني. أمسحها بغضب.

لبنان تحت الاحتلال والانتداب سوياً. وهو محرر أيضاً. كل الأوصاف تصدق فيه. كل الأضداد تتعايش رغم تنافرها، وفي الوقت ذاته يعطل بعضها بعضاً، كما في هويته.

تحتل اسرائيل فلسطين بالشيكل وليس فقط بالجنود. يحتل الأميركيون لبنان بالدولار. يسحبون هذا الأخير كخيط عقد، فتنفرط حبات لبنان، وتقع متقافزة في كل اتجاه.

الفرنسيون يناقشون إعادة الانتداب على لبنان، «الدولة الفاشلة» حسب تعبير جوزيب بوريل، المفوض السامي للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي. لا أفهم ماذا يريد القول بعبارة إعادة الانتداب؟ فهم لا زالوا هنا عبر جزء من اللبنانيين. وهؤلاء وجهوا لهم عريضة عبر موقع آفاز للعودة لانتدابنا. ربما لم يكونوا كثراً، ستون الفاً من بين ٤ ملايين تقريباً. لكنهم لبنانيون .. ووقعوا

لم فعلوا؟ هل هو الخوف الآتي من إدراك الهشاشة والمصطنع في هذا الكيان؟ هل هو اليأس من الانصهار مع الآخرين ام .. عدم الرغبة؟ ام انه الوفاء للمخترع. وفاء فرانكشتاين لصانعه.

العتمة شاملة يقول الخبر. من الشارع أسمع صراخاً ليس بعيداً. المشاجرات المتفجرة في كل مكان أصبحت جزءاً من الديكور المستجد لمشهد الانهيار. أصمت طبعاً. فعلى المشاهد المهذب الصمت حين يكون العرض جارياً وحين لا يكون باستطاعته إلا المشاهدة.

ربما لا تتغير الأوطان بهذه السرعة. ربما لا تتحلل جثثها بسرعة كما تفعل جثثنا. ربما سيحصل التغيير يوماً ولن تضيع جهود أمثالنا سدىً. ربما.

العتمة تلف البلاد. نسمة رقيقة تتسلل فتنعشني. أتنفس براحة للحظة واحدة،  أقتنصها. أتمسّك بإحساسها وأستبقيه برجاء التسلل منها الى الغفو. ربما أنام.

بيروت/١٩ آب ٢٠٢١