“بكل إحترام” هي العبارة التي تقال هنا بدل “حاضر” المصرية أو “تكرم عينك” اللبنانية أو “بخدمتك” الفرنسية. تقول لنادل الفندق “من فضلك اريد عصير فراولة”، فينحني ويقول “بكل إحترام”. تبدو العبارة شديدة التهذيب الى حد انك تظن حين تسمعها للمرة الاولى بأنه يسخر منك، او هي عبارة تقال للسيدات فقط، من باب نفي النوايا السيئة. للوهلة الأولى، وقبل ان تتكرر امامي هذه العبارة الثقيلة بالمقارنة مع وظيفتها، أحسست بأن غزة تفتقد لخفةالحركات اليومية الإعتيادية. “بكل إحترام”. تبدو إنحناءة زائدة تنقلب الى عكسها لولا الإبتسامة.
هي الإبتسامة العزيزة هنا على الوجوه المتجهمة بالحصار وضيق ذات اليد، تتسلل الى وجوه الموظفات في “الستديو” المحاذي لوزارة الداخلية الفلسطينية، والذي يسترزق من صور المعاملات الرسمية. تجلس الفتاتان خلف “كونتوار” عال يكاد يخبئهن عن العيون، في حين جلس الى المكتب الأقرب الى الباب، موظف متجهم بالكاد يرد المرحبا. فالمرحبا، إن لم تكن “السلام عليكم”، معناها انك خارج المنظومة المحلية. أصّر على المرحبا. أصوّب بتكرارها، ما يوحي به شكلي: لست من هنا لكني عربية. تضعك المرحبا خارج سلطة ذكورية تهيمن على الشارع، خاصة على النساء في المشهد العام لغزة. لم اظن في حياتي ان المرحبا قد تختزل كل هذه الأغراض.
تشق الإبتسامة طريقها بصعوبة إلى ملامح السيدتين. أتجاهل الموظف المتجهم الذي رمقني بنظرة سريعة غاضبة. تذكرت الموظف المصري على المعبر الذي بعد ان فلفش اوراق باسبوري سألني: «ممكن أسأل حضرتك سؤال شخصي؟ انتي ليه محجبة في صورة الفيزا ودلوقت مش محجبة؟» ابتسم وانا اقول له ان المنديل على رأسي في الصورة كان لتغطية شعري المتساقط بسبب العلاج الكيميائي من السرطان. كان الجواب كافيا ليهلع الرجل وهو يمد يده بالباسبور قائلا: « ربنا يشفيكي». اما هنا، فالرجل غاضب دون ان يسأل. رربما تستفزه قصة شعري.
ترافقني إحداهن لغرفة صغيرة خلف ستار من قماش بمثابة “ستديو” وبيدها كاميرا. هنّ مصورات إذاً ولكن فرع السيدات. أمازحها ونضحك بتواطوء. الصور من اجل التصريح الناقص في اوراقي. تقول لي وقد أضاء وجهها بإبتسامة المرح كما لو انه تنشق للتو اوكسجيناً ” لم لا تطلبي إقامة لسنة؟”. تريني الصورة، فلا تعجبني. فتصوّر بطيبة خاطر غيرها وغيرها ..ما ان تخرج من غرفة التصوير، حتى تعود لمكانها وهي تضبط ابتسامتها، ثم تختفي عن ناظري ما ان تجلس مرة اخرى خلف كونتوارها العالي.
“انا الوحيدة اللي مش حاطة على راسها بغزة مش رح تضيعيني”، اقول لأم ابراهيم بارود. تعطيني والدة الأسرى العرب بالتبني موعدا في “خيمة الصليب”، اي الصليب الأحمر، حيث تحصل الإعتصامات عادة. ام ابراهيم، تماما مثل ام جبر وشاح وبعض السيدات في الجبهة الشعبية مثلا، يقاومن الضغط العام لفرض الحجاب عليهن باشكال متنوعة: السيدات الكبيرات بالسن يلبسن اثوابهن الفلسطينية المطرزة ويلقين على رؤوسهن باغطية بيضاء تقليدية. تبدو وجوههن اقل تجهما. يبدون على راحتهن. اما البقية؟ فمن النادر ان ترى فتيات سافرات. حتى المسيحيات هنا، يضعن نوعا من قبعة تلمّ الشعر بكامله عندما يخرجن الى الشارع، خاصة في المناطق الشعبية كساحة وسط البلد، فيبدون للمفارقة، كاليهوديات المتشددات. إضطهاد إضافي. اما في المناطق الراقية، فلا حجاب للنساء غير المتدينات. فرض الحجاب هو على الأضعف، طبقي ايضا.
مقاومة التحجيب بقوة الضغط الإجتماعي، تبدو أكثر ما تبدو على الفتيات الشابات من تلامذة الجامعات. كنت رأيت بعضهن اول وصولي. يخبرنني ان المسيحيات اللواتي يدخلن الى الجامعة الاسلامية لا يغطين رأسهن فقط، بل هن ملزمات بلبس الجلباب الإسلامي. «فقط في الجامعة الاسلامية» تقول سهام. اما ريهام ، فقد وصلت الى موعدنا في المرة الاولى وقد وضعت على رأسها قبعة شتوية من الصوف تغطي شعرها كله. تحاول الصبية مقاومة “محو” شكلها. القبعات “موضة السنة” اقول لهن للتعزية والتشجيع. لكنهن لا يتأخرن عن الشكوى. “حتى هذه الثياب غير مقبولة في الجامعة بحجة انها غير محتشمة. بحياة الله تيابي مش محتشمة؟” أنظر اليها ملفلفة بالثقيل من الثياب الشتوية: معطف يصل للركبة، شالات تحيط بالرقبة، بنطلون وبوط، وعلى الرأس تلك القبعة. تكمل الفتاة الغاضبة” حد يقللي كيف تيابي مش محتشمة؟”. اقول لها ان عليها ان تتجاهلهم. فتتسابق وزميلتها المحجبة، والتي تنتظر ان يفك اسرها زواجها من شاب يسكن كندا، على الرد “ليش بيخلوكي بحالك؟ زي ما عملوا في بنت صديقتنا. ضربوها لدرجة عملت عملية لبطنها ما بعرف شو فتقوا لها”. وكيف ذلك؟ من يضرب طالبة في الجامعة لأنها لا ترتدي الحجاب؟ تقول”المنقبات”! ولم لم تشتكي عليهن؟ تقول “إشتكت عليهن لجمعية حقوق الإنسان. وعندها تكلم الاعلام عن القضية وكبرت، صارت تداوم بدون حجاب. لكن احدا لا يتكلم معها الآن في الجامعة، سياسة عزل”. وإذا؟ تقول “بيضغطوا عليكي بكل الطرق مش كل الناس بتقدر تقاوم. انو شو الفرق بين قبعتي وبين الحجاب؟ اهلي اصلا مش متدينين. بالعافية يعني؟”.
شيرين، هي الأخرى، تضع حجابا لو خُيرت لما وضعته. كل شيء في وجهها وجسدها وحركاتها يقول ذلك. هي الأخرى لا تتأخر عن التصريح وهي تتنهد “ضرورة للعمل..” تقول. العمل مقابل التدين. هذه مساومة اخرى. تعطيني موعدا بعد الظهر لأنها تريد ان تصحبني الى مكان ما. ترفض القول الى اين. أحاول المراوغة كوني هنا «للشغل وليس للتنزه» كما قلت لها، لكنها تؤكد على الهاتف «بقللك تعالي مش رح تندمي..هذا شغل كمان”. لسبب ما “تيست”. وكم ندمت على ذلك. تبين انها كانت ستأخذني الى “الكوافير”. وماذا هناك من مميز في الكوافير؟ اسألها حين أراها فتهمس: «ما كان فيني احكيليك على التلفون، ممنوع الكوافير النسائي في غزة»! ولم؟ أسألها. تقول :”هيك..ممنوع”. وكيف يعني الحكومة منعت؟ تقول “خلوهم يوقعوا على تعهد بأن لا يمارسوا مهنتهم. لكن بعضهم لا يزال يعمل سراً». وماذا يفعل الحلاقون الممنوعون من ممارسة مهنتهم؟ «بيدبروا راسن». تقول.
الحلاق النسائي الذي كانت ستأخذني اليه هو واحد من إثنين لا زالا يعملا في السر هنا، خلف ستار «إدارة الصالون فقط». لا احد يفشي سر الكوافير الغزاوي. كل زبوناته يحمينه «لموهبته في القص والتزيين النسائي». اندم كثيرا على عدم زيارة الكوافير. اين كنت ذاهبة بدلا منه؟ الى مقهى قيل لي انه يستضيف “التجربة الأولى لعمل الفتيات النادلات المحجبات بالطبع”. اسم المطعم “الديرة”. لمحتهن ما ان دخلت. فتاتان بالكاكي. الشباب الندل لا يلبسون الكاكي. لكن النادلات المحجبات يلبسن اللون العسكري الصيفي. الندل ليسوا غزاويين. هنا العمالة المصرية أقوى لأن “لا دراسة فندقية في غزة”. هنا ايضا، الطبقة الأعلى الغزاوية: المطعم يبيعك البحر كمشهد، مثل كل المطاعم والمقاهي والفنادق التي تتراص جنبا الى جنب في المدينة على شارع “البحر” الذي ينتهي بالميناء. لكن البحر لا يبرر ارتفاع اسعار المكان بشكل جنوني. لا يبرره ايضا الطعام ونوعيته التي ليس عظيمة بالمرة. المبرر الوحيد هو اثنان: السفور للنساء وإمكانية تدخينهن الاركيلة الممنوعة عليهن دون الرجال،
والأجانب. حجاب النادلات هنا عامل “جذب” اضافي للسياح. هم ايضا،الرجال خاصة بينهم، يتصرفون بغض البصر كمن حفظ تعليمات حكومته التي تنصح بها مواطنيها المسافرين. يتصرفون كمن يدفع عن نفسه تهمتين: البحث عن النساء والتجسس. النادلات المحجبات تقبضن اقل من مائتي دولار شهريا، بدوام ينتهي عند الرابعة بعد الظهر. «ستمية شيكل» تقول إحداهن بحياء حين نسألها لدى خروجها وقد بدلت ثيابها بعد إنتهاء دوامها من باب المطبخ. فاتورة الغداء لشخصين قاربت الثلاثمائة شيكل اي اقل بقليل من مائة دولار. إحداهن استقالت، «لأسباب مادية اولا» تقول صاحبتنا، ولأنها لم تستطع مقاومة “القيل والقال”برغم حجابها حسب ما فهمنا ايضاً. اما الأخرى، الظريفة التي تعاطت معنا بحرية اكبر وببهجة وسخرية، فهي ليست محجبة فقط حين تخرج من المطعم بعد دوامها، هي منقبة.
لكن اغرب حجاب، هو حجاب مادلين. ومادلين ليست مسيحية هي مسلمة وهي الصيادة الوحيدة في غزة. فطبيعة عملها في البحر وفي الشمس تبدو للوهلة الاولى تتعارض مع حجابها. لكن قصة مادلين كلاب قصة. فبنت الثمانية عشرة عاما، تحاول بحجابها إتقاء منافسة زملائها الصيادين الذين يحاربوها بكل ما اوتي الذكور من قوة هنا: بالدين، بالتقارير، بالتشنيع عليها. وكأنها حين توفق وتصطاد قوت عائلتها، تأخذ من رزقهم.
ربما لو كان البحر مفتوحاً، اي غير محتل بالحصار الإسرائيلي، لما كان التنافس بهذه الشراسة التي أقعدت الصيادة الغزاوية الوحيدة عن اصطياد رزقها. الغيرة ايضا. فمادلين اصبحت «نجمة» بحجابها ومهنتها في القطاع المحاصر. كلما سالنا عنها، كلما انتبهنا الى مدى التواطوء بين الذكور ضدها. من يعرف مكانها، يدلنا الى الإتجاه الآخر، اما «زملاءها» الصيادون؟ النقيب خاصة، فيقول انهم لا يمنعوها ولكنهم في الوقت ذاته يناقضون انفسهم: «لم اشتكينا عليها؟ فتاة صبية تذهب مع بحار الى عرض البحر..وين بدها تقضي حاجتها!» أساله وما علاقته بهذا الامر؟ فلا يفهم. حاولت مادلين الخروج مع «محرم» هو اخوها الصغير اضافة الى البحري الذي يساعدها بنشر الشباك ولمّها. لا بل انها ذهبت الى شيخ افتى لها بشرعية خروجها لرزقها مع بحري. وبرغم ذلك. ها هو قاربها الذي اهدته اليها مؤسسة التعاون، والذي قيل لنا ان اسماعيل هنية اهداه لها، قبل ان تصحح لنا، مركون في الميناء على اليابسة، في حين تحاول ان تصطاد بحسكتها الضئيلة بضع سمكات لتقدمها لعائلتها.
تجلس وإيانا امام البحر الممنوع عليها، تلعب بالرمل وهي تتحدث بسرعة. تعمر منه أشياء ثم تمحوها طوال حديثنا، او تدس كفها في رطوبة الرمل الباردة. ماذا تفعل مادلين؟ السجينة بالاحتلال اولا ثم بمهنتها ثانيا ثم بانوثتها التي تمنع عملها ثالثا؟
التدخين ايضا ..ليس ممنوعا بل مكروها في غزة. لا تبيع كل الدكاكين السجائر. بعضها فقط.التدخين عيب في غزة. اما الكحول؟ ففقط عند المسيحيين. وماذا يفعل المسيحيون اذا في غزة؟ هل هناك ضغط عليهم؟
حتى المنشفة بالفندق مكتوب عليها بالعبري. يقول لي احد الأصدقاء ان الناس تفضل البضاعة الآتية من إسرائيل لأن جودتها مراقبة احسن من تلك الآتية من مصادر اقرب كمصر مثلا او رام الله. الموضوع أفدح من استخدام الشيكل بكثير.
لكن هناك آخرين مثل شيرين، الموظفة في جوّال التي التقيتها فور وصولي من أجل شراء شريحة فلسطينية لهاتفي. أسالها عن الثمن و”أبلمّ”: هل من الممكن ان أدفع بالدولار او الجنية المصري وليس بالشيكل؟ أسألها. ونا اتكلم اليها أحس بأن الدولار هنا له نفس طعم الشيكل. يردف دليلي الذي يعرف الموظفة ضاحكا:”لا تريد ان تتعامل بالشيكل”. تضحك الصبية المحجبة والتي يشع جمالها الفلسطيني مؤطرا بالمنديل. وإذ بها..تدفع ثمن الخط ذو الرقم المميّز وبدل تشريجه من جيبها!
لا تنفع التوسلات ولا الإعتذارات. هل أرفض التعامل مع هذه العملة الغبية التي تقلد شكل اليورو لأستخدم فلسطينيا للتعامل بدلا مني معها؟ هذا نفاق اخلاقي عنصري. “يسواني ما يسوى أهل فلسطين المعتقلين” أقول لها، ولكن، سبق السيف العزل. خلص . لا أحد يرفض هدية، تقول لي، “انت ضيفتنا”، مردفة بإبتسامة مشرقة “اهلا بك في غزة”.
من هو المسؤول عن جعل الناس لا يفكرون إلا بلقمة العيش؟ سياسة الحكومة؟ او حصار غزة؟ او الأصل الإحتلال الإسرائيلي؟ هناك من ينسى الأخير. تعود لي “حزورة” جوزف سماحة يوما في باريس، نقلا عن فيلسوف فرنسي ما، ربما سارتر. يقول :”سيدة تعشق رجلا على الضفة الأخرى من النهر. يتصل بها، ويطلب منها لقاؤه ليلا. الطريق غير آمنة على الجسر الذي يربط الضفتين. تخرج من منزلها ليلا لتذهب اليه، فتقتل. من المذنب؟” العاشق؟ أم هي لأنها تعلم بان الطريق غير آمنة؟ ثم يقول بعد بضع إجابات تبين انها خاطئة: الجواب ببساطة المجرم. الجواب ايضا على اسئلتي: ببساطة الإحتلال. ولكن، هل الأمر بهذه البساطة؟