
أنهض بابتسامتي، أتعلّق بها لأرفع جسدي من السرير، كمن يتعلق بعارضة حديدية عالية لتقوية عضلات الروح المترهلة بثقل بلد منته الصلاحية، ونقتات ـــــ رغم ذلك ـــــ به، فنتسمم يومياً. قبل ذلك بلحظات، كنت أؤخر فتح جفوني، باحثة عن فكرة تقودني إلى تلك الابتسامة الضرورية للنهوض من السرير إلى البلد. أي فكرة، أي مشروع، يخرجني التفكير به من عبث مراوحة المكان.
أداور مزاجاً سيئاً خلّفته ليلة من النوم المضطرب، أحايله، كأنني معه في حلبة. ننظر الى بعضنا كعدوين متأهبين، لا يريد أحدهما أن يغدره الآخر بضربة تهزمه. ندور حول بعضنا، اماطل في مواجهته. الخوف الذي كنت قد رأيته على الوجوه لدى وصولي الى طرابلس، اخترق مسامي. حول ساحة عبد الحميد كرامي، علق أحد المسترزقين لافتات تثير النعرات المذهبية المفترض أن يعاقب عليها القانون. الناس حول الساحة، بدوا مستائين لمصادرة رأيهم. هذا ليس مزاج يوم عطلة. سأذهب الى البحر. جميل البحر في الشتاء. أقصد فصل الشتاء لا المطر. أحب أن أجلس، كما في ذاك المقهى الصغير عند المرفأ، تحت عريشة عنب عريت من أوراقها، وارتسمت أغصانها المتعرجة على حائط السماء الزرقاء الصافية، كرسم أوّلي سريع بقلم فحم. أجلس هناك بمعطفي وشالي الصوفي. مؤانسة البحر في الشتاء أجمل. أحب البحر، أريده اليوم. لكني أعلم أني في النهاية سأعود الى بيروت. غداً يوم عمل.
الأحد. لا شيء تغيّر. أتحدث الى والديّ طويلاً بالهاتف. يتعدل المزاج قليلاً. أترك الراديو مسترسلا علّه يذيع أغنية جميلة، تعلق في رأسي، وتظل تدور فيه طوال النهار فتلهيني عن عدوانية الشارع. لا أمل بجديد الأغاني. أراهن على القديم الذي نسيناه لقلة إذاعته. “بينغو”: الإذاعة اللبنانية تذيع اغنية جميلة. ما زالوا في الإذاعة الرسمية يقولون اسم المؤلف والملحن، لا كما في إذاعات الاف ام، حيث المطرب وحده «بطل» العمل. أتشتت مع اقتراب وقت الذهاب، ولست جاهزة بعد لمواجهة «المجتمع». إني أراوغ. أفكر بالاتصال بأخي في البرازيل. اشتقت اليه كثيراً. أراجع نفسي: الساعة الآن هناك الثالثة صباحاً. بلاها.
بيتي. أحب أن أسمّيه الكاراج. أصبح اسمه كذلك منذ بدأ الوضع العام «يحلّ» عليّ بنحو خطير. أخذت آوي اليه لإصلاح ما تيسر من أحوالي قبل الخروج مرة اخرى الى حلبة الشارع. حلبة المكتب. حلبة السوبر ماركت. هنا أقوم بأعمال صيانة شخصية. «حدادة وبويا» للمزاج، كما أحب أن اقول ساخرة من نفسي ومن البلد.
أترجل من السرفيس بالقرب من كلية الحقوق اول شارع الحمراء. أحب أن أمشي هذه المسافة الى الجريدة بالقرب من حديقة الصنائع. الناس يلهون هنا، يجلسون تحت الشمس. الأولاد يكرجون فوق دراجاتهم المستأجرة. كأننا في بلد طبيعي.
مصريان. عاملان شابان، ألتقط من كلامهما بقية جملة لدى مرورهما بجانب فتاة. بدا من نبرة الصوت أن الشاب رفع صوته بها قصداً. نوع من التلطيش/الغزل. قال شيئاً لكني لم أسمع الا كلمة «بس حلوة..». لم أعرف ما الذي سبق هذه الكلمة التي فقعت وحدها بأذني. افترضت أن ما قبلها «سيئ» مبدئياً، فكلمة «بس» للاستدراك. استطاعت الحركة، بما فيها من لهو وخلو ذهن، أن ترسم ابتسامة على وجهي. تعلقت بالابتسامة، وجدتها!
أنظر الى السماء من خلال الأشجار الكبيرة شبه العارية امام وزارة الإعلام، أجلّس كتفي، قامتي، مشيتي، أوسّع خطواتي، برغم أن الرصيف بكامله مفخخ بحفر واسعة زرعت فيها الأشجار، رصيف لم يبق منه للمشاة إلا أن ينزلوا إلى الزفت بعدما احتلت أكثره وزارة الداخلية، بحواجزها الحديدية، وقضى عناصر الحراسة على الباقي. أقول في نفسي: لم لا تستبدل الداخلية إجراءات الأمن هذه التي تقضم رصيف المشاة، بإجراءات داخل حرم الوزارة؟ خلف سورها؟ أتذكر نقاشاً مشابهاً عن سبب تمركز اليونيفيل في الجنوب من جهتنا، لا في الجهة المقابلة من الحدود.
رشاقة من حيث لا أدري بثّها المشي في قدميّ، كأنهما تخففتا بالمشي من ثقل كآبة الروح. تتسع خطواتي ويخفّ وقعها على الأرض. تبحث نظراتي عن مزيد من الجمال، قد يكون رائحة عابرة، قد يكون سيدة نسقت ملابسها بشكل جديد. قد يكون إعلاناً ذكياً. أتنبّه الى نظرات العابرين تتعلق بابتسامتي كما تعلق العصافير على الدبق. ترمقني وأنا أتقدم بثقة. تلتقي نظراتنا أحياناً فيبتسمون بدورهم. الناس أيضاً بحاجة إلى أي ابتسامة ليتعلقوا بها. هم لا ينظرون إلي، هم يتعلقون بابتسامة عابرة. مثلي يبحثون عن فكرة ينهضون من أجلها من السرير، عن ابتسامة توصلهم إلى العمل، لكي يستطيع نهار آخر أن يمر.
0