زبقین. كأنھا قرية أصیبت بھستیريا. كل شيء يختلط بكل شيء في زبقین. الضحك بالبكاء. العرس بالجنازة. شك الدخان الجاري على قدم وساق، او ما امكن إنقاذه منه، بروائح المتحلل تحت الركام غیر المرفوع، ولا تدري إن كان بشراً أم حیواناً نافقاً. لم يدمر الطیران الإسرائیلي زبقین. بل عجنھا عجناً: زفت طرقاتھا بباطون بیوتھا، بحديد سیاراتھا بلحم أھالیھا. في اللیل، يسمع الناجون أصوات الضباع المستثارة برائحة الجثث والتي تحوم حول القرية، حول الركام في قلب القرية. لكن صوت الأحیاء يمنع الحیوانات الجبانة الملتھمة للجثث من الاقتراب.
في قلب القرية المدمّر، يصرّ البعض على النوم. لكن غیرھم، مثل عزيزة يونس، لا يجرؤ على ذلك. يكتفي ھؤلاء بقضاء الیوم في بیوتھم المتأرجحة ويؤوبون للنوم حیث الونس. عند الاقارب ما تبقى من بیوت سلیمة قد لا تتجاوز الخمسة عشر بالمئة من القرية. حتى مناخ زبقین بدا، أمس، كإنما قد أصابه مسّ. ھنا، وعلى علوّ ما لا يقلّ عن ستمئة متر عن سطح البحر، تبدو الرطوبة التي تثقل ھواء القرية كأنھا ساحلیة. كأن القرية زحلت من الجبلالىالساحلبفعلالقصف. الشوبمشطبیعي..كإنّا على شط البحر تقول زھرة البندر )30 عاماً( التي كانت تجالسنا في منزل أبو احمد بركات وھي تلوّح بمحرمة أمام وجھھا العابق بفعل الحر وثیابھا السوداء وحجابھا. مشھدا الدمار وشك الدخان ھما المتكرران في زبقین المنكوبة. أول ما فعله العائدون ھو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من موسم الدخان. الدخان الذي احترق قبل أن تلفه السجائر وتلتذّ به الشفاه، والاھم قبل ان تدفع ثمنه الريجي. من استطاع ان يدخل حقلاً لم تزرعه القنابل العنقودية، فقد جلس ونساء البیت يشكون ما استطاعوا ان يجمعوه منه. بیي الخبیر راح عمل برمة على حقل الدخان وأفتى انه ما من قنابل عنقودية ، تقول لنا باسمة بركات ضاحكة، وھي تجلس في الحلقة الواسعة على الارض مع ثماني نساء من مختلف الأعمار حول كومة من اوراق خضراء يشكونھا في سلاسل متناسقة. تضحك النساء لنكتتھا. تضحكن بأكثر ما تتطلبه النكتة. تبدو النساء عطشات للضحك. كأنه ضحك بديل عن البكاء. ضحك السرور بالجلوس ھنا كما في ما مضى، مع النساء لشكّ الدخان والرجال يحكون في الخارج. تكرج ضحكات النساء من القلب. تعدي ضحكة النساء العاملات على شك التبغ في فيء الغرفة الباطونیة، وجوه الرجال القاعدين في شمس المصطبة المخلعة التي تكاد تسقط بھم وبنا جمیعاً. يمازحون حسین حسن بركات العشريني الذي كان من المفترض أن يتزوّج في 13 تموز من إخلاص طعمة. يقولون له إنه استحق المبروك لأنه زمط ولم يتزوّج. يضحك حسین من دون أن يبدو مقتنعاً وتطرف عینه ھیاماً وھو يحدق بإخلاص ترنو إلیه من طرف خفيّ. يقول حسین إن الأنكى في قصتھما ھو أنه أينما نزح، كان يسكن بجانب صالة أفراح! في الغازية سكنت فوق صالة. ولما تھجرنا إثر المجزرة إلى الوردانیة سكنّا في صالة بدر للأفراح.. كنت سأموت . تفقع ضحكات الرجال والنساء لمصاب حسین. يكمل شكواه الكاريكاتورية بقوله إن المھجرين ناموا على فراش عرسه الذي نجا مع عفش غرفة نومه، قبل أن يدشّنه مع عروسه. يمازحه الرجال: المھم الحشوة . فیعاودون الضحك. يفتح الضحك الأبواب المغلقة. يحلو الكلام عند النساء في الظل وأيديھن المتحولة إلى اللون الأسود لا تكلّ عن الشك. يرجون زھرة البندر أن تخبر عن قصة بقائھا عشرين يوماً في القرية. تھم الفتاة بالبدء، فتعترض سارة بركات لأ.. من الأول. من عند زيارتك لبیت بزيع اللي راحوا بالمجزرة.
«بیتنا في قلب الضیعة، فوق» . لا تعرف زھرة من أين تبدأ. «تحشّموا عليّ ان أبقى عندھم قبل الضربة بدقائق.. كنت عند بیت الحج نعیم (ضحايا المجزرة)». تلملم قصتھا فنفھم انه إثر بداية الضرب ھرب أھالي البیوت البعیدة في الضیعة إلیھم لأنه منزلھم في قلب القرية. «كانوا حوالى ستین شخصاً فقلت يجب أن أخبز. ولما لم يكن عندي ما يكفي من طحین قلت أذھب إلى بیت جیراني الحج نعیم، وآخذ بعض الطحین» . تتابع «لم أجد عندھم طحیناً، ولما أردت العودة لحقت بي الحاجة سعاد )38 سنة( تريد أن تأتي معي، لأنھا كانت خائفة. قلت لھا لا تأتي الآن فوراً لأن البیت ملآن. لم يكن ھناك موطأ قدم. قلت للحجة سعاد أن تلحق بي عندما أرفع الصاج من وسط الغرفة . ثم تركتھم وانا عارفة كل واحد منھم أين كان جالساً. كانت الساعة حوالى الثامنة والربع. عدت إلى البیت وبدأت بالعجین، طلعت الغارة وقصفت. عرفت فوراً أنھا قصفت عندھم. لأن أبوابنا وشبابیكنا تفتحت من قوة الضربة. كانت الساعة الثامنة والنصف تقريباً. طلیت من الشباك، فرأيت أبو سامي يتفتل كالمذھول أمام البیت وھو يضرب بكفیه على رأسه، وينادي: وينكم يا أولادي؟ وينكم يا أھلي؟ ». تكرج الدموع من عینیھا،
فتدير وجھھا خجلاً وتحاول مسحھا بمحرمة بیضاء. ثم تكمل بالحديث. نسیت أن أقول إن اھم ما في وجه زھرة ابتسامتھا. تغشك ابتسامتھا فتظن أنھا ستقول شیئاً مفرحاً. كانت زھرة مازالت تبتسم عندما انھمرت دموعھا. وثابرت على الابتسام وھي تكمل روايتھا «كانت أخته سامیة عندي. صرخت بي: شو صار؟ فقلت لھا لا شيء، وجررتھا الى غرفة داخلیة لكي لا ترى منظر اھلھا. خرجت الى مكان الضربة فرأيت القلیل: أشلاء.. من الحاجة فاطمة. عرفتھا من الأساور. كانت يدھا وحدھا. لم ننتشل منھا إلا يدھا وسلسلة ظھرھا. عمودھا الفقري. لم يبق منھا شيء ». تبتلع ريقھا وھي تكمل «أنا كنت جبارة. رجعت لعند بناتھا اللواتي كن عندي: سامیة وزوجة أخي نادية. كان أخي، جمیل، قد وصل إلى الركام. طلب مني بطانیات فأسرعت بھا إلیه. كان ممسكاً بیده ذراع الحاجة فاطمة بأساورھا الذھبیة. وصلت بعض أشلائھا الى جداربیتي، نحن بعیدون 50متراً عنھم. بعد قلیل وجدنا بنت 14 سنة، فرح، كان القصف قد رماھا الى جانب الجرافة بالقرب من بیتي. لم تكن قطعة واحدة. عرفتھا من وجھھا. ھؤلاء فقط انتشلناھم وضبّیناھم. لم يكن باستطاعتنا معرفة مكان الباقین كانوا تحت الردم ».
لم يكن لدى زھرة وقت للبكاء. عندما عادت الى البیت حیث كان الأطفال يصرخون جائعین عملت مناقیش وأطعمتھم. في ھذا الوقت أتوا بجرافة وبدأوا يزيلون الركام لانتشال الجثث. «كل عشر دقائق يأتیني شاب لیسألني في أي غرفة كان القتلى جالسین لینقبوا فیھا. فالبیت على مساحة خمسمئة متر. كان ھناك اثنان في الشرفة، وقد نجوا ولو ان حالة احدھما خطرة، لانه محترق من كامل جھة الیسار» . ثم تبدأ بسرد أماكن كل واحد وواحدة. «في اول غرفةكان ھناك الحجة فاطمة والحاجة ثنیة وأمال وفرح، نعیم )20 عاماً( كان قد مرّ بنا قبل لحظات ودعوته للدخول، لكنه رفض قائلاً إن معه غرضاً يجب أن يسلمه لجده. (الابتسامة مجدداً) كان مقصوصاً قطعتین من وسطه على درج المدخل الثاني. في الیوم الثاني احتاروا بمكان البقیة. لكننا وجدنا الفتیات الصبايا قاعدات على سرير بغرفة النوم مع الصبیان الصغار. كما تركتھم لقیتھم. الوضعیة نفسھا: ملاك )17 عاماً( وخلود )18 عاماً( وعزيزة )11 عاماً( وحسین )12 عاماً( ملاك القرآن على صدرھا وقد ضمت أخاھا حسین. وسعاد ماتت وھي تداري عن رأسھا وخلود قد وضعت كفیھا على أذنیھا، كأنھا تمنع عنھما الصوت ».
تغرق الابتسامة للحظة تحت سیل الدموع ثم تعود لتطفو وھي تقول «محمد وام سامي لم نجدھما بداية. وجدنا أشلاء ظنناھا لأم سامي، لكننا عدنا ووجدناھا في غرفة الحمام. بقیت تحت الأنقاض شھراً وأسبوعا. كانت الأشلاء لمحمد».
لم تكن المجزرة إلا بداية الجلجلة لزھرة البندر. الجبارة، كما تسمّي نفسھا لتجبر نفسھا أن تكون كذلك بین جمع كبیر من النساء المنھارات والأطفال الباكین خوفاً تحت القصف الإسرائیلي. «قلت لنفسي سأبقى لأصبر من بقي قلیلاً. ثم لم يعد ھناك سیارات لتخرج من القرية بنا كلنا. صرت أخبز كل يوم. ما أخافنا كان الطیران وكان فوق رؤوسنا. في الیوم العاشر. كنا قد أصبحنا حوالى سبعین شخصاً في البیت. لم يعد يتسع لنا وقوفاً. خلفنا قبو، دخلناه فإذ بنا نفاجأ أن نصفه مواجه للبوارج. فانحشرنا بنصفه الثاني. لم يكن معنا إلا اربعة أرغفة فقسمناھا لقماً على الجمیع. في الیوم الثاني قلت سأذھب وأعجن وأخبز. وھكذا فعلت».
كنا قد نسینا وجود النساء حولنا الساكتات لسماع القصة ، وھن يتابعن شك الدخان في حین ان عیونھن معلقة بشفاه زھرة. كنا قد نسیناھن لولا أن إحداھن صاحت بانفعال «رح تفوتي على الجنة بثیابك».
تبتسم زھرة وتكمل «صارت الغارات فوق رؤوسنا تماماً. خرجنا من القبو ومن البیت كله ووقفنا بالعراء في الحاكورة خلف الدار. وقلت لھم: ھلق قرروا إلى أين سنذھب. دمّر كل الحي حولنا. نزلنا، حوالى سبعین شخصاً، الى الحارة )مئتي متر( وإذ بشخص يلوّح لي من كاراج ھناك. فاكتشفت أنه أخي وأنه كان ينتظر ھناك مرور قوات الطوارئ الدولیة لیستنجد بھا لنقلنا. قررنا أن ننام امام دباباتھم إذا مروا لنجبرھم على التوقف، لأنھم كانوا يمرون مسرعین. نمنا في الكاراج ووقفت أنا وأخي جمیل نترصد مرورھم لكي نعلم الآخرين. سمعنا فجأة زمور سیارة مدنیة. قطعنا الطريق علیھا، فقالوا لنا إنھم ذاھبون لینقذوا أناساً في تبنین. فقلت لھم: خذوا من تستطیعون معكم ولو الى تبنین. فقبلوا وأخذوا حوالى عشرين شخصاً ».
الخروج من زبقین:
«قوات الطوارئ؟ ثم تبتسم وھي تتابع ھنا، كنا بخروجنا قد انكشفنا للطیران. لم يبق أمامنا من أمل إلا قوات الطوارئ. وإذ بھم يمرون. قعدنا بوسط الطريق أمام الشاحنات. فتوقفوا. كنا حوالى ثلاثین أو أربعین شخصاً. كلنا أولاد ونسوان وبعض الرجال الكبار ». ثم تھز برأسھا يمنة ويسرة، كما لو كانت تفتش عن كلام تصف به ما حصل . «الطوارئ؟ الإسرائیلیي أحسن منھم. الیھود احسن منھم. يمكن الیھود ما بیعاملونا ھیك. صاروا يقلعونا قلعاً عن الطريق ويرمون بنا الى جانبھا. كالھمج، كالمجانین. أكثرھم كانوا من السود. وكان في الخلف بعض البیض. جندي أبیض في الخلف وقف يبكي لمنظرنا. كان يبكي علینا. أحد الجنود السود قال لنا إنھم سیعودون. لكنھم لم يعودوا أبداً. غیّروا طريقھم. لم يعودوا أبداً يمرون من زبقین.»
«كان علینا أن نعود وأن ننتظر عودتھم ولو أننا لم نصدقھم، لكن الطیران كان يراقبنا. لو دخلنا أي بیت لقصفنا ». انتظروا حتى اللیل ودخلوا بیتاً وجدوا فیه ثلاث نساء. طبخت زھرة، لكن من دون خبز. انتظرت الطوارئ، فإذ بقوة مشتركة تمر بینھا لبنانیون. تحولت زھرة وأخوانھا الى قطاع طرق لقوات مسلحة لا تحمي غیر نفسھا. وعدھم اللبنانیون بالعودة أيضاً لكنھم لم يعودوا. وقال عناصر الطوارئ: سنحكي قصتكم. ولما سألوھم نقلھم ولو إلى صديقین، قالوا لھم: لیست لدينا اوامر لإنقاذكم!
لم يعد بإمكانھم دخول البیت مرة أخرى، لأن الطیران رآھم. الطیران كان يحوم حول المدنیین ويريد قتل المدنیین. الجنود لا يأخذون المدنیین معھم، لأنھم يعلمون أن ھدف إسرائیل ھو المدنیین. وجدوا غرفة مھجورة ماتت صاحبتھا منذ زمن. دخلوھا «طقطقت أفواھنا-تقول- من العطش التصق لساني بالحنك من شدته. المیاه على مرآى منا في البئر بالقرب من الغرفة ولا نستطیع الخروج، والغرفة، لأنھا مھجورة ملآنة بالبعوض والعفونة. وإذ يقبل علینا بعض من تركونا سابقاً، لأنھم كانوا غیر قادرين أن يحتملوا العطش. من بیت لبیت نحاول أن نجد شیئاً نأكله. حتى وصلنا إلى بیت رجل كبیر بالسن وجدناه لوحده. قال لنا: إن وجدتم شیئاً أطبخوه للأولاد. فتشت البیت لم يكن ھناك ما يؤكل. جلست ودمعتي في عیني ونظرت إلى أعلى فإذ بي أر سقیفة. طلعت إلیھا وإذ بھا عامرة بالمؤونة: عدس، حمص، برغل، زعتر، كل شيء».. . يضيء وجھھا وھي تقول إنھا من فرحھا نطت عن السقیفة الى الغرفة نطاً، ولم تنزل على السلم. فیغرق كل السامعین بالضحك السعید لقصة زھرة.
قعدت زھرة وأھل زبقین اربعة ايام في ھذا البیت، إلى ان جاء الفرج على شكل صوت زمور.. بوسطة، «كان ذلك قبل الھدنة الأولى بیومین. خرجنا حفاة الى الطريق فإذ بابن أخي قد ارسلھا لتقلنا إلى صیدا. قال: عجلوا، ولم نكذب خبراً حتى أننا لم نعد إلى الداخل، لكي نلبس صرامي بأقدامنا ».
تصمت زھرة البندر، التي اكتشفنا بعد قلیل أنھا لیست إلا شقیقة الأسیر المحرر كايد البندر الذي انتظرته خطیبته خلال عشر سنوات أمضاھا في المعتقلات الإسرائیلیة. تصمت وھي تبتسم ابتسامتھا التي تنصب فخاً للسامع، فیتوقع كل شيء إلا ما تحكیه، ثم تقول «عندما وصلنا الى صیدا، سألتني إحدى الفتیات العاملات بالإسعاف الاجتماعي: ما أسمك.. فكرت للحظة، ونزلت دمعتي، وأنا أقول لھا: والله نسیت».
*نشر في جريدة السفير 24/08/2006