مدونة الكاتبة اللبنانية ضحى شمس

أسانج «ماي سوبرمان»*

أسانج «ماي سوبرمان»*
27/06/2024 doha chams

عادت «الأخبار» لتنشر وثائق ويكيليكس، وعاد الفتى الذهبي جوليان أسانج ليشغل «المجتمع» اللبناني، إن صدق فيه وصف «مجتمع»، بأخبار طبقته السياسية والروحية والثقافية التي يجب كشط معظمها ما إن تبدأ «المياه» بالغليان، وهي بدأت تغلي منذ فترة. فالنار موقدة تحتنا، والإناء، كما تعلمون، ينضح بما فيه. عادت ويكيليكس وعاد أسانج، بطل زماننا المعاصر، ليشغلنا بمتابعته. فهو الابن «غير الشرعي» للنظام العالمي، ابن «أساطير» الشفافية والديموقراطية وحرية التعبير، والدليل الذي ينفي ويثبت، في الوقت ذاته، وجودها. إنه سوبرماننا المعاصر.

فالفتى الذهبي، ذو الشعر الأشقر إلى حد البياض، هو فعلاً «بطل خارق». نوع من «الفتى الجبار»، بطل مجلات الطفولة من الرسوم المصورة، وأزعم أنه لا يشذ في ظروف «نشأته» عن أولئك الأبطال الذي ولدوا من المخيلات الجماعية. فهؤلاء الأبطال الخارقون ظهروا في الغالب تعويضاً عن عجز عام، عالمي في حالنا و «بفضل» العولمة. هكذا، يقال إن «روبن هود» مثلاً «ولد» في القرون الوسطى عشية فترة شهدت زيادات ضريبية ومصادرة أراض من قبل الأمراء. «زورو» أيضاً ظهر في خمسينيات القرن 19 في ولاية كاليفورنيا أثناء خضوعها للحكم الإسباني، وفي الأصل، أي قبل مصادرة هوليوود له، هو بطل مكسيكي ورمز لمقاومة الثقافة الأنغلو أميركية. «سوبرمان» ظهر منتصف الثلاثينيات، عشية انتهاء الكساد الكبير، ودخول اميركا الحرب العالمية الثانية. لكن أستاذ «الرسوم التزينيه» (illustration) دانييل درانن رجح أن يكون هذا الظهور في «لحظة استبدال أميركا لنظامها الديني بنظامها الرأسمالي، وكتعويض عن شخصية المنقذ الديني (المسيح)» بمنقذ مدني (سوبرمان) ولكن خارق (نوع من إله ولكن حديث) يحقق العدالة ويحارب الجريمة. وربما كان من الأفضل تشبيه الثنائي أسانج/ مانينغ (برادلي مانينغ الجندي المتهم بتسريب الوثائق) بشخصيّتي «باتمان وروبن». فباتمان المقنع هو أيضاً ابن «النظام»، لكنه يحارب الشر بأساليب غير «شرعية». وبغض النظر عن التفاصيل، نكتفي بالقاعدة العامة. فالخارق العادل «يولد» لتذليل خارق آخر شرير (انظر «المهرج» مقابل باتمان) وبأدوات «خارقة» هي الأخرى: السمع الخارق، النظر والنفس الخارقان… وهو ما يستقيم، تقريباً، في قصة ويكيليكس.

فإن كان ظهور الأبطال الخارقين تعبيراً عن رغبة جماعية في خلاص سحري في مجتمعات ما بعد الحروب أو الكساد الاقتصادي، إلا أن ما أنتجناه نحن، المسحوقين بنتائج ثورتين متتاليتين: الصناعية والمعلوماتية، أفضل بمليون مرة من تلك الأساطير، لسبب واحد: إنه ليس خرافة، بل حقيقة توازي ثورة على النظام العالمي.

فأسانج ومانينغ ليسا بطلين كرتونيين، بل نابعان من حاجة حقيقية للشعوب التي صادرت الإمبراطورية كل وسائل تعبيرها بلعبة معقدة، تتضافر فيها قوى المال والسلاح والإعلام، وبرامج توظيف الطاقات الشابة للبلدان التي تنخرها البطالة والفساد، في «منظمات» المجتمع المدني، المبدد للطاقات، بتمويل من الإمبراطورية.

لكن، وكما أنه من كل دمار تنبثق الحياة، وهي حياة، كما في العلاقة بين المضادات الحيوية والفيروسات، مولودة بالضبط من انتصارها على الفيروس، انبثقت فكرة ويكيليكس كمضاد حيوي لتلاعب بلا حدود بقيم الشفافية وحرية التعبير.

هكذا ولدت لتلبّي حاجة حقيقية بإماطة اللثام عن مخربي المجتمعات. «كوكب كريبتون» المدمر بخصوصياته وأحلامه وثقافاته والمنهوبة ثرواته، هو نحن. أما «سوبرماننا» فهو أسانج، الذي حاول محاربوه انتزاع قواه «الخارقة» بكريبتونيت* التهمة الجنسية الملفقة، لسلبه قواه الجبارة، وهي هنا صدقيته والحقيقة التي ينشرها. وحين وقف «أميرنا الصغير» منذ أسابيع في شرفة سفارة الإكوادور التي منحته اللجوء الى أراضيها، ومنها السفارة، بدا كأنه يقف في أعلى نقطة من كوكب «غوتام» في قصص «باتمان». كان في وقفته سخرية وتحدي من يعرف قوة الطعنة التي وجهها إلى «النظام»، وحذر المحارب الذكي الذي يعرف أنه يواجه قوى الظلام المجروحة بكشف وجهها المشوه إلى العالم.

ثم تلا بيانه الذي يدعو فيه زميله مانينغ، المعتقل في الولايات المتحدة، إلى أن يتصرف كبطل وليس كمتهم. وها هو منذ يومين يوجه اصابع الاتهام لأوباما، وذلك خلال مداخلة له مقفلة على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، قائلا له إنه يستغل الربيع العربي لتحقيق مكاسب سياسية، وأن ادعاء الولايات المتحدة بأنها تدعم قوى التغيير في الشرق الأوسط “يمثل ازدراءً بالبوعزيزي”.

وإن كان أسانج قد رفض اللعب وفق قوانين الإمبراطورية، فإن الإمبراطورية تلعب معه بأساليب كلاسيكية شريرة. الاتهام بجريمة جنسية هو سلاح أميركي بامتياز. شيء يشبه مونيكا لوينسكي وبيل كلينتون. لكن تشويه سمعة أسترالي بواسطة الجنس أمر صعب. كان لا بد من الاعتناء بالتفاصيل، ففبركوا اتهامه باغتصاب سيدتين، إحداهما كان من الواضح أنها دسّت كالسم في سريره فكان الاغتصاب السويدي، وهو مفهوم عصيّ على الفهم في الحقيقة. لقد طعن أسانج الإمبراطورية في مقتل، وهي لذلك تستشرس في محاربته. فهو النموذج الضد، الذي يبطل مفعولها. هو البطل المضاد الذي تسعى لإعدامه، ولو معنوياً، في الساحات العامة، لكي يكون مصيره «عبرة لمن يعتبر».

ماذا فعلنا لأسانج؟ لقد تضامن معه «أبناء جلدته»، إن صح التعبير، ببعض التظاهرات المؤيدة. وحين لوحقت ويكيليكس لتجفيف «منابع تمويلها» وعاقبتها «ماستر كارد» و «فيزا» وما تيسر من أدوات النظام العالمي المالي، تبرع بعض المتعاطفين الأغنياء ببعض تمويل لكي تكمل ولا تموت.

عدا ذلك؟ كل النضالات لتأييده كانت افتراضية. لكن الحلول الافتراضية لا تنفع حين يكون التهديد جسدياً. هنا تتوقف حدود النضال الافتراضي. ولذا، يجب أن نفكر معاً، فلربما خطر ببال بعض القراء المهتمين فكرة ما، فلا يبخل بها علينا. فنحن قوم، كما تعلمون، لا ننسى ولا يجب ان ننسى… أبطالنا.

*الكريبتونيت هو حجر أسطوري أخضر، أهميته تأتي من كونه الوحيد القادر على تعطيل قوى «سوبرمان» الخارقة.

*30/09/2012/ جدار الصوت/ جريدة الأخبار