وأحبّ مدينة الخيام التي تعرفت إليها يوم تحريرها في العام ألفين (2000)، وتصوّرت في معتقلها السابق مع ندى في الغرفة التي احتُجزت داخلها سهى بشارة، وأرسلنا يومها الصورة إلى سهى في سويسرا، ففرحت. وأرسلناها إلى نهلة في باريس، فبكت من الفرحة.
وأحبّ من الخيام الأديب محمد العبد الله، وأتساءل عما قد يكون أصاب قبره فيها بعد كلّ هذا القصف بالصواريخ ونسفِ البيوت وتسميم الأرض وأحزمة النار التي شنّتها إسرائيل طوال ستة وستين يوماً من دون توقف ثم أكملت بعد وقف إطلاق النار، كأنه ما كان.
وحين أفكّر في ذلك، يتهيّأ لي أني أرى محمد في قبره، يبتسم كعادته بسخرية، متسائلاً عن مصدر “كلّ هذا الضجيج”. وقد يغضب لأنه لا يفهم ما الذي يحصل، فهو تحت التراب ولا يعرف ما يحصل فوقه والتواصل مقطوع بين المستويين. وقد يلتفت إلى حسن، العبد لله أيضاً، في قبره بجواره، ويسأله إن كان يخمّن سبب كلّ تلك الأصوات المزعجة التي تمزّق سلام نومهما الأبدي، في حين إنهما يرقدان ككلّ الأموات، بسلام، في مقبرة البلدة التي يحبان، وكما قيل لهما إنّ ذلك سوف يستمر حتى يوم القيامة. فهل قامت القيامة بهذه السرعة؟ قد يتساءلان.
وأحبّ من الأدب كتابات محمد العبد الله إن كانت نثراً أو شعراً، لكني لم أقل له ذلك أبداً حين كان لا يزال حيّاً. فمحمد لمن لا يعرف، كتب أجمل وأذكى وأبلغ وأبسط كتاب تاريخ فردي وشخصي عن لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي العام 1982 لبيروت والجنوب. وهو الكتاب الذي سُحرت بأسلوبه، وأحاول تقليده هنا بكلّ وقاحة.
أحببت شخصية محمد العبد لله الأدبية، لكنه بدا لي حين اقتربت منه، ذكورياً بعض الشيء، فاكتفيت بحبّ كتبه وبعض الكلام، إلى أن مات وتركنا باكراً.
كما إنّي أحببت حسن العبد لله، لكنه هو الآخر مات، وأكاد أقول الحمد لله إنه فعل قبل هذا الذي عشناه منذ خمسة عشر شهراً ولا يزال مستمراً. فهو، أي حسن، رقيق رقة الشعراء ورواة قصص الأطفال، وكان الأمر ليدمره كما فعل بغيره من الأحياء الذين لن أذكرهم. لكني، من جهةٍ أخرى، لا أحمد الله على موت محمد، لأنه ربما، كان ليكتبَ جزءاً ثانياً من تحفته الفريدة: “حبيبتي الدولة”، فيؤرخ للأجيال المقبلة، ومن حيث لا يتوقّع أحد، لهذه المرحلة المذهلة وغير القابلة للوصف من تاريخنا، والتي، كما تعلمون مسبقاً، لن ترويها كتب تاريخنا الرسمية التي لم تشتهر باحترامها للحقائق، ولقد علمنا بذلك بعد فوات الأوان والعمر معاً.
وأحببت من الجنوب أيضاً، بلدة أرنون، خاصة بعد أن دفنا في ثراها برهان علوية. كان برهان أيضاً ساخراً عظيماً، لكن عاطفته كانت تغلب تلك السخرية فتحوّلها لمرارة. فمن المعروف كما يقول العزيز هنري برغسون في كتابه “الضحك”، إنه عليك أن تأخذ مسافة من شيء ما لتستطيع أن تسخر منه. وبرهان لم يكن يستطيع أن يأخذ مسافة لا من الجنوب، ولا من فلسطين، ولا من إسرائيل. فكيف تأخذ مسافة من أرضك، أو قلبك أو من كيان لا ينفك يُزاحمك على مكانك حتى يكاد يجلس في حضنك؟
أحببت كتابات جوزف سماحة، أستاذي في الصحافة، لكنه مات وتركنا بغتة في وقتٍ نحن أحوج ما نكون إليه. كان جوزف بيننا، كما لو أنه مع ذلك، لم يكن بيننا. كما لو كان يسبقنا في المكان والزمان. موجود أمامنا، وفي الوقت نفسه في السنوات المقبلة. ننظر إلى ظهره ويلتفت إلينا بين الحين والحين، كتابةً، ويفسّر لنا ما يحصل مما لم نكن قادرين على فهمه، أو يضع لنا الاحتمالات. لكنه مات ولم يبلغ الكهولة لعلة وراثية عائلية. أو ربما لأنه سبقنا لشيخوخته في المستقبل، أو لأنه كعادته، توقّع ما سيحصل، فاختار أن يموت وألا يعيش هذه الخيبة.
وأيضاً، كنت أحبّ محمود درويش، وكان في سنواتي الباريسية، صديق جلسات مزاح وسياسة من دون الشعر. كان محمود يرتاح في تلك الجلسات من صفته الطاغية تلك. فنأكل والأصدقاء، ونضحك ونتحدّث في كلّ شيء آخر. لكنه صار في بيروت، حين جاءها، نجماً فقط. فقلت في نفسي: لا بأس يا فتاة، لأنه ظلّ شاعراً عظيماً، وبقيت أحبّه كثيراً إلى أن توقف قلبه في غرفةِ عمليات باردة كان يخشى دخولها في هيوستن بولاية تكساس الأميركية، تماماً كما كان يخشى الموت.
وكنت أحبّ إلياس خوري ذات نهار في الجزائر، نغني أغاني الشيخ إمام، وخلفنا يجلس في الباص المتوجّه إلى قصر الصنوبر الذي يُعقد فيه المؤتمر الوطني الفلسطيني، الكاتب الإسرائيلي أمنون كابليوك. وتحرّش الأخير بنا حين كنا نغني، فعاجله إلياس بما يسكته. وابتسمت ممتنة. فماذا يريد منا الرجل ما دام أنه يحمل هوية الاحتلال؟ فإن كان يَمُنّنا بمواقفه وكتابه عن مجزرة صبرا وشاتيلا، فهذا شأنه وشأن ضميره. فما دخله في غنائنا؟
لكني عندما عدت إلى بيروت بعد سنين طويلة، لم أستأنف أيّ صداقة مع إلياس، فقد كانت دوائر اهتماماتنا مختلفة، ولو بقيت فلسطين تجمعنا من بعيد.
ووجدت أنّ الجميع يتحولون في بيروت نجوماً بعيدة، في حين أنهم في الغربة أقرب بكثير. وقلت في نفسي، لا شك أنّ الغربة تجمع والوطن يفرق. وتأملت مدهوشةً في هذه الجملة العجيبة.
ورأيت إنّي أفكر بغتة في كلّ هؤلاء الأصدقاء، وفي غيرهم كثر ممن لم يعودوا بيننا. وحرت طويلاً متسائلة عن السبب. ثم تراءى لي أن ذلك قد يكون لأننا، وبسبب كلّ ما حدث هذا العام، لا نودّع سنة إضافية من أعمارنا، بقدر ما نودّع مرحلة من تاريخ البلاد التي كان كلّ هؤلاء عناوينَ في متنها، أغنوها بنقاشاتهم وكتاباتهم وكانت إلى حدٍّ معقول، من صنعهم.
حقبة عشناها وإياهم في هذا الشرق الملعون، الذي ناضلوا جميعاً، كلّ على طريقته، لتجنيبه وتجنيبنا هذه النهاية، من دون جدوى. ثم قلت في نفسي: لا بأس. فلتأخذي نفساً عميقاً قبل دخول يبدو مؤلماً جداً في العام الجديد.