
هذه الجملة العالقة منذ الصغر في عقلي، مع علامة استفهام و«استلشاق» لو وجدت.. عادت تلحّ عليّ في الآونة الأخيرة، كأنها طفت من قعر الذاكرة لدى متابعتي قضية «عرسال».
والجملة العالقة من مسلسل ما، عرضه «تلفزيون لبنان»، أيام كان ينتج، مقتبساً عن الأدب العالمي، بقيت هناك ربما لعجزي عن فهم المغزى منها: فما معنى «جريمتكم أنكم أبرياء؟»، كأنها من سقط متاع ما يوصف على أنه الشعر «الحديث» الذي يتوخى تناقض الألفاظ للإيحاء بغرابة ما، يظنها «تميّزاً» يصنع الشعر، لا أذاقكم الله هذا النوع من التميز..
ولسبب ما، طفت الجملة إلى السطح خلال تفكّري بمعاني قضية عرسال. وهي قضية أيقظت في النفس اللبنانية مخاوف تتفاقم منذ جريمة «كترمايا» الجماعية، التي سحل فيها الأهالي وقتلوا متهماً أجنبياً، وجريمة «حلبا» التي قتل فيها «الأهالي» جرحى في مستشفى، وجريمة «المحمرة» التي ذبح فيها عناصر من فتح الإسلام جنود الجيش اللبناني في أسرّتهم. هكذا، أصبحت قصة عرسال مرادفاً لمسار يتفاقم عنوانه «استفراد» حفنة من المواطنين المستشرسين في ظل غياب الدولة المتفاقم، بتحديد مصير منطقة أولاً، وبالتالي صورتها في المشهد العام، في ظل غياب «الصوت الآخر». هذه الصورة الفظيعة لعرسال التي جعلتها حبّة في سُبحة أحداث انهيار الدولة، «رنّت» في مكان آخر.
هكذا، لم يتأخر «الأهالي» في عرسال (وهم غير «الأهالي» المشتركين بقتل وسحل الجنود حتى الجرحى منهم)، عن الرد بالصوت والصورة: وإذ بنا نراهم على الشاشات يوزّعون الورود على الجنود المحاصرين لبلدتهم، ورأينا وجوهاً فتية لطلبة المدارس، وجوهاً «مدنية» تقول أمام ميكروفون «نشرة الأخبار» إن بلدتهم عرسال التي أصابت بقية الوطن بالهلع، هي في الحقيقة «ليست عرسال الحقيقية»! هذا «الإنكار» لجزء من الحقيقة، قد يكون صحيّاً.. جزئيّاً. فهو يعني أن مجموعة من المواطنين تدفع ببراءتها من الجريمة الجماعية التي اقترفها وشهدها أكثر من مئة مواطن من أهل البلدة البقاعية في ظل تفرّج سائر الأهالي. لن نختلف مع «عرسال الثانية» على الحجم الحقيقي لعرسال الأولى، فهم لم ينفوا وجودها، ولكنهم، وفي صدد الدفاع عن أنفسهم أمام العقوبة الجماعية التي فرضت على «كل» عرسال بُعيد الجريمة، خرجوا ليقولوا إنهم «عرسال الحقيقية». فهل هذا صحيح؟ وهل الخلط بين العرسالين هو مجرد «تشابه أسماء»؟ هل يكفي هذا الظهور المتأخر لأهالي عرسال الثانية، وتوزيع الورود على الجنود للقول إن هؤلاء هم عرسال الحقيقية؟ وأين كانوا قبل أن يستولي رئيس البلدية وجماعته على «عرسال الحقيقية»؟ كم نفْساً تعدّ عرسال الحقيقية؟ وهل هم أغلبية.. صامتة؟ وهل يليق الصمت بمواطنين اكتفوا بالتفرّج طيلة سنوات على انحراف البلدة برعاية «حفنة» من العراسلة وجرّها مراراً وتكراراً إلى الفتنة؟ ماذا فعلوا ليحموا عرسال الحقيقية من هؤلاء؟ ما هو دورهم في تحديد مصيرهم ومصير ارتباطهم بباقي الوطن؟ هنا، لا تعود عرسال وحيدة بل تصبح نموذجاً لكل البلد. بل نموذجاً لعلاقتنا بالشأن العام، نحن، الأكثرية «الصامتة». أكثرية، لو كانت فعلاً كذلك، لكان صمتها أكبر الجرائم بحق البلد وأهله. لأنه الصمت الذي يتيح للمجرمين أن يتمادوا. مَن منّا اعترض مرة على اليافطات التي ترفع مثلاً باسم «أهالي المنطقة»؟.. مَن منّا اعترض على الضوضاء التي تتسبّب بها المراكز الدينية في الفسحة العامة؟ ميكروفونات الكنائس والجوامع المتورّمة بالطائفية والرغبة في إعلاء الصوت لكي لا نسمع «الآخر»؟ مَن منّا قال «ليس باسمي»؟ مَن منّا مستعدّ للنزول إلى الشارع احتجاجاً على حرماننا من النقل المشترك؟ على احتلال الأملاك البحرية ومصادرة حقّنا في الوصول إلى البحر، لا بل تدفيعنا بدلاً مقابل السماح لنا بالوصول إلى الشاطئ؟ مَن منّا يتفحّص فاتورة الكهرباء المتضخّمة بضرائب لم تعد موجودة كبدل التأهيل مثلاً (راجع رشا أبو زكي في المدن «أيها اللبنانيون فواتير الكهرباء ملغومة»).. هذه أبسط الأمثلة، ولكن الذهنية التي استولدتها وجعلت من تقبُّل المسيء المستقوي بالدين تارةً وبالسلطة طوراً عرفاً في حياتنا اليومية. هذه الذهنية هي التي تقف خلف إفلات أقدارنا من أيدينا، فالدولة ليست أمّنا. الدولة ليست أبونا الذي يعرف مصلحتنا، الدولة وكيل للناس يتوجب عليهم مراقبته ومحاسبته فمتى حاسبناها فعلاً؟ ألسنا المسؤولين عن ترسيخ خروقات القوانين كسوابق عبر سكوتنا؟ أليست جريمتنا في الحقيقة هي في هذا السكوت الخطير الذي يوازي الجريمة؟ سكوت، ما إن تتولّد منه المخاطر حتى نصيح فجأة أمام العدسات.. أننا أبرياء؟ فهل نحن وأنتم حقاً أبرياء؟ أليست جريمتنا وجريمتكم أنكم وأننا، تحديداً وبهذا المعنى، «أبرياء»؟
*مدونة جدار الصوت 12-02-2013