
هو برنامج كنتُ قد رأيته في ما يراه المشاهد فجراً على الشاشة الصغيرة٬ إثر استيقاظه مرعوباً من ملاقاة أحداث حياته العامة، التي هرب منها بالنوم، في منامه. وبالتالي لا ينتبه ل«وهلة الاستيقاظ» أنه كان نائماً أصلا٬ً ولا يتاح له ان يلاحظ ذلك حتى.. بعد استيقاظه! لذلك يلجأ٬ في ظل «تلازم مساري» حياته٬ أي اليقظة والمنام٬ الى البحث فور استيقاظه «وجّ الضو» عن قناة تلفزيونية تعرض شيئاً يجعله يحس بأنه ليس مستيقظاً.. في لبنان. شرط أن لا يكون في سوريا٬ ولا بالطبع في إسرائيل وبلا أدنى شك ليس في العراق٬ حيث إن كل البلدان المذكورة أعلاه غير مستحبة كبلدان «تغيير جو».
إذا٬ً تفيق شاهقاً من الكابوس٬ لتجد أنك لا زلت داخله. فتبحث بإلحاح عن برنامج مسل ٍّ. وهو أمر لا يتوفر لمشاهد القنوات المحلية والإخبارية منذ 14 شباط الماضي (اغتيال الحريري)، إلا صدفة. كون التلفزيونات تحوّلت تدريجاً الى تلفزيونات.. السنة الماضية٬ بسبب الصفن المتواصل على المادة الأرشيفية «السياسية».
لذلك بدا وقوعي على ذلك الفيلم الوثائقي صيد صدفة. فقد كان يروي قصة رجل في قارة بعيدة قرر بناء جزيرة من.. قناني البلاستيك الفارغة التي كان يجمعها عن الشاطئ.
هكذا٬ أخذ يربطها ببعضها في شبكات من الحبال ويرميها في المياه فتعوم. يعمد بعد ذلك إلى ربطها بكومة مماثلة الى جانبها وهكذا دواليك. بعد ذلك كان الرجل يردم السطح والفراغات بين القناني المربوطة الى بعضها بالرمال لتستوي أرضاً منبسطة٬ ثم يضع تراباً فوق كل شيء حتى تكوّنت جزيرة عائمة تبدو لغير العارف أنها «اليابسة» كونها مربوطة بإحكام الى.. اليابسة شخصياً.
لم اعد أذكر جنسية الرجل ولا في أي جزيرة كان يتم إنجازه٬ لكنني أذكر أنه أخذ يتوسع ويزيد مساحة «الأرض» التي أستحدثها٬ تماماً كجدتنا الكبرى أليسار التي بنت قرطاج من وعدٍ بمساحة جلد ثور من الأرض كما تدّعي الأسطورة.
وبما أن الناس ترمي قناني المياه بكثرة، إضافة، وأي إضافة لقناني المشروبات الغازية من الحجم العائلي٬ فقد واصل جمعها وربطها الى جزيرته الصغيرة حتى توفر لديه حوالى.. نصف كيلومتر طولاً وثمانمئة متر عرضاً من.. «الأرض».
ثم نظر آدم «البلاستيكي» هذا الى جزيرته المربوطة كقارب الى الشاطئ٬ فوجد إنه بحاجة الى منزل٬ فبنى لنفسه كوخاً جميلاً ثم جلب قطاً وكلبا٬ً للمؤانسة٬ وحماراً للنقليات (فالحصان سيقع لسرعته في المياه لصغر الجزيرة). ثم زرع نباتاً وبقولاً وشجرا٬ً فنمت وأثمرت أناناساً ميّزت ثمراته في الصورة. وأقام نظاماً لجمع مياه الأمطار (لم يشتر قناني مياه معدنية) ونظاماً لاستيلاد الطاقة الشمسية.
وسأله الصحافي ما الذي يفعله أيام الأعاصير؟ فأجابه ان جزيرته صمدت على الرغم من مرور أعاصير وعواصف مختلفة (إذاً هي هاواي.. الآن تذكرت). اما حين يرغب في «الوحدة»؟ فقد كان يقوم باستقلال مؤقت! فيفك جزيرته البلاستيكية عن الجزيرة الطبيعية٬ ويترك المياه تأخذه بمجراها الى حيث يرمي مرساته بعيداً عن ضوضاء الشاطئ. أما حين يرغب بالوِنْس٬ فقد كان يعود الى شدّ وثاق جزيرته الى مرساها داعيا٬ً مَتى أراد الناس٬ الى زيارة جنته البلاستيكية.
وقال معلق الفيلم٬ الذي كان يتحدث ونحن نشاهد نسخة روبنسون كروزو الاختيارية٬ يسقي الزرع٬ أن حكومة بلاده (في الجزيرة الطبيعية)٬ تفكر بأن تعلن هذه «الجزيرة» الاصطناعية أرضاً تابعة لها! وحين سأله المعلق رأيه٬ رفض بشدة. لا بل انه قال أنه يفكر بتكبير جزيرته لتصبح بلداً صغيراً عائما٬ً موضحاً أنه عندها سيدفش بقدمه اليابسة الطبيعية ليبتعد عن الشاطئ بجزيرته العائمة الى مكان خارج المياه الإقليمية لبلاده٬ فيرمي مرساته هناك ويعلنها أراض محررة٬ يكون هو حاكمها. وقد يفكر بأن يعطي جنسية وطنه البلاستيكي، إبن فكرته ونفايات الناس٬ وصناعته الوطنية الشخصية٬ لمن قد يسمح لهم بدخول أراضيه (بتأشيرة؟) والعيش معه في وطنه العائم.
بدا الامر أشبه بالحلم: تصوّروا لو ان كل بني آدم يصنع وطنه «الخاص ناص» فلا يضطر الى التعايش او التوافق أو الحوار٬ مع أحد. بدا الرجل حالماً وهو يقول ذلك الكلام. ولو انه لم يتطرق لتفاصيل مهمة من نوع ماذا سيفعل أن قذفت به الأمواج مرة اخرى داخل المياه الإقليمية لهذه الدولة او تلك؟ فهل يكون ذلك بمثابة «اختراق» لسيادة الدول التي قُذف إليها؟ هل سيقبل بمراقبين دوليين على جزيرته لتحديد السبب (المتغيّر بتقلب الأحوال الجوية) في الخروقات؟ وهل فعلاً دفشته الأمواج ام انه «تسلّل»؟ وهل سيكون بحاجة الى فيزا «للتقارب» مع الدول الأخرى التي يريد الرسو على شواطئها أم ستكون معاملة بالمثل لوطنه في حال اعترفت به الأمم المتحدة؟
ومع انني كنت أسأل كل تلك الأسئلة إلا أنني.. عدت الى النوم. نوم لم أرَ فيه لا سيارات مفخخة ولا سياسيين يعتدون على الشأن العام ويُبرحونه «سياسة» حتى الموت.
لم أرَ مدفناً ولا تشييعاً ولا رسوماً تشبيهية للمفجّرين تشبه كل الناس٬ لا ارامل ولا يتامى جدد يمزقون قلبك دون ان تجد ما قد يعزّيهم. لم أر إسلاما أو مسيحيين ولا دروزا ولا علويين ولا اتراكا ولا اكرادا ولا إسرائيليين ولا أميركان ولا صحافيين.
فقط رأيت نفسي٬ في ما يرى النائم٬ فوق جزيرة مماثلة٬ ألبط الشرق الأوسط بطرف أصبع قدمي… فأبتعد الهوينا مع مجرى الأمواج بعيداً إلى أن أتلاشى تماماً في الأفق.
-
22/12/2005 نشر في السفير صفحة صوت وصورة