مدونة الكاتبة اللبنانية ضحى شمس

عندما يذوب الثلج ويظهر التفاح

عندما يذوب الثلج ويظهر التفاح
05/10/2019 doha chams

لا أحب التفاح٬ او بالأحرى ظللت لا احبه لفترة طويلة. فقد كان التفاح إنتاجنا العائلي الرئيسي٬ وكان يندرج في نظام حياتنا كعائلة كبيرة ذات دخل محدود٬ تتوزع عيشها بين الساحل والجبل٬ وتفتش٬ ساحلا وجبلا٬ عن أفضل الطرق للجمع بين المفيد والمسلي وغير المكلف. هكذا كانت عائلتنا٬ ما ان كانت المدارس «تفودس» في حزيران، حتى تتوجه الى الضيعة، في سيارة تحاول ان تتسع للأولاد السبعة والوالدين والجدة٬ إضافة الى أغراض «الصيفية» محمولة على «الباكاج» من فوق وفي صندوق السيارة الخلفي٬ والأهمّ بذلة الوالد العسكرية التي كان يعلقها كي لا تتجعلك في التعليقة فوق أحد الشبابيك الخلفية في السيارة، مما كان يحكم على من يجلس بجانبها مصارعة الهواء الذي كان يقذف بالقميص على وجهه٬ وبالتالي فقد كان الجميع يهرب من الجلوس هناك.

كنا نمضي الصيف٬ تقريبا كل صيف٬ في الضيعة. لم نكن نقول «الجبل» بل الضيعة. لأن من يذهب إلى الجبل هو واحد من إثنين: إما درزي وهو يعني جبلا محددا غير جبلنا٬ وإما أن يكون له بيت في الجبل إضافة الى بيته في المدينة٬ فيكون بذلك غنياً يقضي صيفه٬ إذا أراد، في بيته الريفي. ما ان تنتهي الإمتحانات في حزيران٬ حتى كنا نتوجه في رحلة الصيف الى القرية (وتقابلها رحلة الشتاء الى الساحل). لكننا لم نكن نقدّر فائدة الصيفية على علو 1400 متر٬ فقد كنا مجبرين عليها بسبب هشاشة موازنتنا.

هكذا كنا نعود من الصيفية بوجوه قروية «موردة» بالصحة والعافية٬ في حين كانت زميلات لنا في الصف يعدن بأجساد ممشوقة من السباحة ووجوه برونزية تضيف الى جمالهن مدينية، بعيدة المنال عن قرويتنا الإجبارية لأسباب إقتصادية.

ولأسباب اقتصادية كنت واخوتي الستة نكره التفاح. فقد كان التفاح زراعة أهل المنطقة الأساسية. كان هو الموسم. ولم يكن فاكهة نشتريها من السوق في اكياس سمراء٬ بل كان مجرد.. تفاح. كما لم تكن ضيعتنا التي نصيّف فيها إجبارياً الجبل او الريف٬ بل الضيعة.

واقترنت تفاصيل حياتنا بالتفاح٬ وإن بدرجة أقل من المزارعين الكبار. فكل ما لدينا كان بستانا كبيرا حرصت جدتي٬ رحمها الله٬ على العناية بشجراته وإضافة ما تيسر من بقول تكفي حاجة المنزل في الصيف وتمونه ببعض المربيات والمقدد والمونة نهاية الموسم. كان «قطف التفاح» إذا موسما أو عيد الموسم. تقترن فيه وبمواسم أخرى مثل «شيل البرغل» و«شيل الكشك» مواعيد الحياة الإجتماعية للضيعة. وعندما كان جوزيف ناصيف يغني في فيلم السيدة فيروز «سفر برلك» مقطع «جايي من الجرد الحسون يقطف ويعبي السلة»؟ كنت اظن أن الأغنية المعروفة للأخوين رحباني إنما كتبت خصيصا للرجل الذي كان «يضمن» التفاح في قريتنا الجردية وإسمه ببساطة: «حسون». يتكفل «الضمّان» بشراء المحصول وتصريفه. لذلك عندما كان يحل موسم القطاف٬ كان فريق عمل «حسون» يحل ضيفا على من حل دوره في قطاف بساتينه.

هكذا٬ كانوا يقطفون التفاح ويفرزونه بابا اول٬ وباباً ثانيا. ويشرفون على وضعه في الصناديق الخشبية بعد تغليف كل تفاحة منه بورقة رقيقة ملونة٬ مثل ورق الهدايا غير اللامع. كنت اعشق تغليف التفاح بالورق وانتظر بشوق الموسم ومجيء «القطّيفة» كل سنة للتمتع بملمس ورق التفاح الذي كنت اجد ان سرقته لا تقاوم: الليلكي للتفاح الغولدن الأصفر الذهبي والأخضر للتفاح الستاركن الأحمر. كنت اسرق الأوراق وأخفيها تحت الفراش ثم انساها لأنني لم اكن أعلم ما أفعله بها. كانت مغرية فحسب.

ما زلت أذكر كيف كان أصحاب البساتين يتواسطون مع الشغيلة للترفق في فرز التفاح: أي التساهل في تقييم ما هو باب اول وما هو باب ثان. وبعد القطاف والفرز والصندقة كان اصحاب الأرض يولمون للشغيلة ويحصل غناء ومواويل تهب على القلوب الملأى بفرح خير السنة والرزق الجديد.

كانت تلك المتعة الوحيدة للتفاح. اما بقية السنة فقد كنا نقضيها نتملص من دعوات الأهل لاكل التفاح الذي كان متوافرا لدرجة لا تتيح لك معها ان تشتاق الى طعمه. كنا نمضي الصيف نسمع الجدة ترجونا اكل الثمار «قبل ان تسقط على امها»٬ اي قبل وقوعها من شدة النضج تحت الشجرة. ثم كنا نقضي الشتاء نرى صناديق التفاح التي احتفظ بها الوالد في «براد الشامي» في طرابلس للفاكهة تتوافد صندوقا اثر آخر الى براد المنزل مشكلة «الفاكهة» الشتوية (مع أل التعريف) إضافة الى الموز والليمون اللذين هما «الفاكهة» الشتوية في طرابلس. كان الموز والليمون لأبناء طرابلس ما كانه التفاح لنا. وقد كنا نكتشف في شنطنا المدرسية تفاحا امتنعنا عن اخذه من المنزل فإذ بالوالدة تدسه في الشنط الهاربة من الفاكهة غير المحرمة لدرجة منفرة. وكنا نضحك من لهفة اهل الساحل٬ صديقاتنا البرونزيات واستمتاعهن بضيافة التفاح الذي كنا نرغب في التخلص منه. كان انتقامنا السري من بنات المدينة اللواتي يذهبن الى البحر.

لكنني كنت اعلم ان الناس تحب التفاح. وكان الفخر بالتفاح اللبناني مقرونا في ذاكرتي بصور تلك الروزنامات التي كنا نراها في بيوت المزارعين الحقيقيين في قريتنا والتي كانت تمنح لهم لدى شرائهم الأسمدة. كانت تصور فتاة جميلة جدا بخدود موردة تقضم تفاحة من لبنان، وقد اتشحت بمنديل فولكلوري يربط غطاء الرأس بغطاء رقيق يمر من تحت الذقن. كانت تشبه راقصات الدبكة في مهرجانات بعلبك. وكنت اظن ان التفاح اللبناني مشهور جدا في العالم بأسره. كما طبيعة لبنان الخلابة وكما اختراع الفينيقيين الأبجدية.

وعندما هربت من الحرب في منتصف الثمانينيات الى باريس تمكنت شيئا فشيئا من التطبيع مع التفاح: وما زلت اذكر الشعور بالغرابة الذي انتابني وانا أشتريه للمرة الأولى في حياتي. أما عندما بحثت عن تفاح لبناني اشتريه من السوق الفرنسية ولم أجد٬ فقد كنت أعزو ذلك الى الحرب الأهلية التي حالت دون الحياة الطبيعية الزراعية في لبنان والوصول الى الأسواق العالمية. وكنت٬ لغيظي٬ وانا ارى الأفوكا الإسرائيلي لا يمنعه شيء من الوصول الى تلك الأسواق البعيدة٬ اتصنع انني اقلب ثماره وأغز فيها ظفري الطويل ليفسد فلا يباع. كان نوعا من النضال «الولادي».

كنت مقتنعة بعالمية تفاحنا. ولذلك٬ شعرت بما يشبه الدش البارد عندما كنت اقوم بتحقيق صحافي في مصر ادخلني احد المنازل المتواضعة عند «الحجة لواحظ»، التي أجابتني رداً على سؤال: ما الذي يخطر في بالها عندما تسمع كلمة لبنان؟ بالقول أنه يذكرها بالمطربة صباح «وبلبنان الحلوة» . وعندما سألتها إن كانت تتذكر التفاح ايضا قالت: التفاح؟ ليه؟ هوه عندكو تفاح؟ أنا أعرف ان التفاح اميركاني

وقد صعقت وقتها من «جهل» الحاجة لواحظ. فعالمية التفاح اللبناني في رأسي لا تناقش. لكنني تنبهت٬ لأول مرة٬ لرنين أسماء التفاح الأجنبية: غولدن وستاركن.

وعندما عدت الى لبنان٬ كان إقبالي الجديد على التفاح كفاكهة حرمت نفسي منها طفلة٬ مدعاة بهجة والدية. كان في ذلك ما يشبه عودة الإبن الضال. لكنها كانت يقظة متأخرة. فقد حاول والدي جاهدا تصريف التفاح الموسمي كل سنة٬ وعندما وجد أن الموسم لم يعد «يجيب همه» قلع شجرات عدة واختار زرع انواع اخرى من الفاكهة تؤمن حاجة المنزل.

لكن٬ فجاة ظهر التفاح: على التلفزيونات في الجرائد وفي احاديث الناس. فجاة ظهر على الشاشة كأعجوبة٬ كأن ثلجا ذاب عن قمم الجبال فظهر التفاح تحته. كاكتشاف أثري في خلال فلاحة ارض بور. ظهر وتصدر مائدة مجلس الوزراء. كان سيدا عليها وحدثا٬ مع ان مائدة الجلسة يمد سماطها للكلام وليس للطعام.

لكنني لسبب ما٬ وعندما رأيت رئيس الجمهورية اميل لحود يأكل تلك التفاحة٬ عاد الي بشكل غريب احساس النفور الطفولي من الفاكهة غير المحرمة بشكل لا يطاق. كان في التهامه تلك التفاحة الستاركن امام الكاميرات شيء زائد٬ تماما مثل المنديل الفولكلوري على رأس الفتاة في الروزنامة التي تقدمها شركة الأسمدة٬ تماما كما في مبالغة الأهل بمزايا التفاح.

كان هناك افتعال٬ وكان النهم الموجود في الصورة الرئاسية التي نشرتها الصحف لإطلاق حملة دعم التفاح اللبناني يؤدي كما في الطفولة الى غير النتيجة المرجوة: كانت رائحة الأزمة الإقتصادية تفوح من التفاحة٬ وكان علي مرة اخرى ان آكلها غصباُ للمشاركة في محاولة الخروج من الأزمة. لا بل ان الأمر تفاقم هذه المرة إذ كنت مجبرة على اكل تفاحة.. اشتريتها، وليس تفاحة مجانية فاضت عن الصناديق وعن إستهلاك العائلة.

وضحكت كثيرا للتحقيق الميداني الذي عرضته المؤسسة اللبنانية للأرسال والذي أشتكى فيه شبان وشابات كانوا يناضلون لبيع «تفاح الوطن» من أن بعض المواطنين الذين دعوا لتذوق تفاح لبنان امام الكاميرات كحملة دعائية٬ عادوا بعد قليل بأكياس وأخذوا يعبئونها بما يشبه السطو على الغلة وليس تشجيعاً للزراعة الوطنية.

في البدء كنت اكره التفاح لأسباب إقتصادية. اما اليوم؟ فأظن أنني عدت لأكرهه مجددا لكن لأسباب وطنية يصعب التطبيع معها.

جريدة السفير 16/10/2003