مدونة الكاتبة اللبنانية ضحى شمس

مقتل علي

مقتل علي
23/04/2015 admin
بانكسي

الرجل الذي كان يتردد على جيراني في البناية لم تكن لزيارته مواعيد محددة. ذلك انه لم يكن يؤدي عملا محددا. انه واحد من جموع اللبنانيين الذين ضاقت بهم مهنهم الأصلية: اما لعدم توفر مكان شاغر فيها، او لتدني اجورهم. مما دفعهم الى البحث عن »أي شيء« للتمكن من إحداث خروقات في خط الفقر  الذي يمكثون تحته، ولونه ليس أزرق كخط الترسيم الحدودي بالمناسبة، هو خط مرشح للتحول الى خط للتوتر العالي بجهود المسؤولين إن شاء الله.

 

 

والرجل، كان يتردد على البناية متسقطا حاجات لا يمكن لغيره قضاؤها: لا السنكري الذي يوحي أجره بأنه خريج السوربون. ولا الكهربجي الذي يبدو مما يطلبه على التصليحات انه في صدد تحصيل ما صرفه على نفسه للتخصص سنوات في جامعة جورج تاون. او الخادمة التي صارحتني بأنها تفضل ان أعرّف عنها أمام صديقاتي بصفة: »مديرة منزل« مع ان منزلي هو مجرد غرفة نوم وصالون ومصطبة.
أما الخدمات التي كان الرجل يقوم بها، فمن نوع جلب »نقلة« تراب للزرع، او توصيل غرض، او احداث ثقب اضافي في جدار الشرفة لتصريف مياه الشطف، فلقد كان يتقاضى عليها مبالغ غير محددة تحتار في تصنيفها بين الاجر والبقشيش: »شو ما بيطلع من خاطرك«.. كان يقول. واحيانا لم يكن يقول، بل كان يقف خارج الباب الرئيسي للمنزل مواربة وعيناه تقريبا على الأرض قائلا: »بتأمرونا بشي بعد؟«.. تدليلا على انه ينتظر اجره.. الذي لم يناقش فيه أبدا.
كان الرجل سمينا بعض الشيء.. لا بل كان سمينا صراحة. اي ان الفقر لم يكن يبدو عليه الا للاقتصاديين الفاهمين ان التضخم ليس دليل صحة. وهو، الى ذلك لم يكن يبدو عليه انه يعيل عائلة من أربعة افراد يذهب ثلاثة منهم الى المدرسة الرسمية (طبعا)، لكنها مدرسة أفضل من تلك التي كان الاولاد ليحظوا بها لو ظل الرجل، واسمه علي، في قريته النائية بمنطقة البقاع النائية عن الاهتمام المركّز المتمركز والمنصب على بيروت خاصة في موسم الانتخابات.
والرجل، اي علي، لم يكن يسكن بيروت تماما. مع انني عندما أتخيله عائدا من القرية عشية الاحد، كان يحب ان يقول مستأذنا اهله: لازم انزل على بيروت. وكان يرشح من جملته شيء من الاعتزاز. فهو في مركز الاهتمام. انه في العاصمة.
لكنه لم يكن يسكن في العاصمة تماما. بل على تخومها. في أحد أحزمة بؤسها التي لدينا منها ضواحي عدة مخصصة كل منها لطائفة محددة. وهناك، حيث تتوحد الطوائف على غفلة منها فتصبح مجرد »شعب فقير«، يسكن علي وعائلته. ولا شك ان البناية التي يسكن فيها تطل على زاروب، مثل معظم شوارع الضاحية، »مسقوف« بالأسلاك التي تحاول الاستعاضة عن التمديدات الكهربائية البالية بأخرى مرتجلة متناسبة مع حاجات المنطقة التي بنيت عشوائيا. ومن شرفة المنزل، يمكنك، مثل معظم بيوت الضاحية ان تشتم رائحة المجارير، وتطل على العاصمة التي لا يبدو ان »تحزيمها« بالبؤس اثر على تراقصها بإيقاعها الشخصي، المستقل.
لذلك، كان علي يطيل مكوثه خارج المنزل. خاصة هذه الايام. فالتيار الكهربائي الذي حرمت منه المناطق والضواحي لأسباب غير مفهومة، واستثار غيابه عن العاصمة هلعا من المسؤولين لأنهم يعلمون ان ذلك خطا احمر، كان يصل مدة أطول بكثير الى قلب بيروت.
ومع احتدام الحر، وتحول الخارج الى »مجتمع شوب«، كان الرجل يحظى اثناء زياراته لزبائنه أمثال جيراني وخلال انهماكه بتنجير او تصليح.. بمتعة »البوردة« »بالآي سي«، اي المكيف.
وقد كان يحدث ان يطلب من السيدة، صاحبة المنزل »شربة ماي«، فتأتيه بها باردة من البراد. اما اذا ضرب »شنصه« فقد تقدم له السيدة »كباية لموناضة« اكتسى زجاجها »بالغطيطة«، من شدة برودة ما بداخلها، تشجيعا له على الاستمرار بالعمل، الذي لم يكن يعرف كم سيتقاضى عليه حتى الانتهاء منه.
لم أرَ الرجل ابدا اثناء عمله. لكنني أكاد أجزم انه كان يطيل مكوثه في هذه المنازل، غير مستعجل العودة الى جحيم العائلة في الضاحية.
وهو، صادف انصرافه من عمارتنا ذلك النهار، انقطاع التيار الكهربائي. و»علق« الرجل في المصعد بين طابقين. وهب لنجدته الناطور السوداني الذي، بعد ان فتح باب المصعد وجد ان القفص الذي فيه لا يبدو منه الا ربعه، هرع لجلب كرسي من اجل معاونة الرجل على النزول من القفص. لكن علي، كان قد ضاق صدره بظلام الداخل والحرارة. فاستعجل الخروج. وهكذا قام بدلدلة قدميه من الفتحة بعد ان استدار فأصبح وجهه لداخل القفص وقفاه للخارج. ودفع بقدمه الى الخلف ليفتح باب المصعد، لكن هذا الباب عاد.. فانصفق عليه في لحظة هشة التوازن، ووقع علي في بيت المصعد من أعلى الطوابق الى الأرض، حيث ما لبث ان فارق الحياة.
واجتمع الجيران والمارة، واخذ الناطور الى التحقيق كشاهد حيث أفلت بعد تسجيل الواقعة قضاء وقدرا. وأرسل اصحاب المبنى لعائلة الرجل رسالة مفادها »شو بيتوجب علينا« لإبداء مروأتهم وشهامتهم مع ان لا ناقة لهم ولا جمل في المسؤولية: فالمصعد لم ينقطع بالرجل لتقصير في الصيانة، بل لأن الكهرباء تعطلت »فجأة«.
إذن المسؤول هو هذه »الفجأة«؟ ومن هو المسؤول عن المفاجأة؟ الجواب البديهي شركة كهرباء لبنان.
هل نقصد مسؤوليتها لأن التيار انقطع؟ نعم، ولكن ليس هذا هو الاساس، فمطالبنا لم تعد بتيار 24 على 24، بل مجرد ان يبلغنا المسؤولون المنهمكون بدفع مسؤولية التقصير عن انفسهم، على الأقل، بمواعيد انقطاع التيار الكهربائي التي تحولت الى مواقيت للقضاء والقدر.
بكبسة زر تقتل انسانا. وكان بإمكانك بكلمة ان تدعه حيا يرزق. هل كان علي ليستقل المصعد لو كان يعلم ان التيار الكهربائي سوف ينقطع عند السادسة مثلا؟ أي لحظة صعوده في القفص؟ قد يكون الجواب نعم، فإغراء بعض الراحة في ضنك الحياة التي يعيشها كان كبيرا، ولو انه كان مختلطا ببعض المخاطرة…
لكنه، لو كان واثقا كل الثقة ان التيار، حتما، سوف ينقطع عند السادسة، لما كان برأينا، مهما بلغت درجة تعبه وخفته، ان يستقل المصعد.
من المسؤول عن مقتل علي؟ القضاء والقدر؟ أم انها مسؤولية شركة كهرباء لبنان التي بلغ من استخفافها بنا درجة عدم القيام بجهد بسيط هو تنظيم التقنين وتبليغ المواطنين بالبرنامج ليحترسوا؟
ما تصنيف الحادث؟ مقتل انسان قضاء وقدر ام قتل غير متعمد لمواطن بالاهمال؟ انسان؟ أم مواطن؟ إن الفرق، كل الفرق يبدو لنا هنا. حيث ان المواطن صفة مرتبطة بالوطن الذي تحكمه دولة تحترم حقوقه بقوة القانون. وعلى اهل الضحية برأينا، رفع دعوى على الجهة المسؤولة في الدولة عن هذا التقصير. لعل علي يتحول في حال ربحت الدعوى الى مواطن ولو بعد فوات الاوان. بعد ان كان مجرد انسان يأتي بمواعيد غير محددة للقيام بخدمات غير محددة يتقاضى عليها اجرا غير محدد الا.. بعد الانتهاء منه.

الصور

Comments (0)

Leave a reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*